«من نار الحرب إلى جحيم الوباء».. كيف فاقمت الكوليرا أزمات النازحين السودانيين؟
«من نار الحرب إلى جحيم الوباء».. كيف فاقمت الكوليرا أزمات النازحين السودانيين؟
السودان- الفاتح وديدي
في جنح الليل، كانت ضحى تندفع مهرولة خارج دار الإيواء، في سباقٍ مع الزمن للوصول إلى المركز الصحي بولاية نهر النيل السودانية، ضامّة إلى صدرها صغيرها، أحمد، بسنواته الخمس، بعد إصابته بإسهال حاد.
ظلت ضحى ترد بعصبية على تساؤلات أفراد الأمن في الارتكازات الأمنية المتعددة بالطريق، لا يشغل بالها سوى محاولة الاطمئنان على نجلها، الذي تبدلت ملامحه منذ الليلة السابقة وأصبح لا يقوى وقوفاً على قدميه تحت وطأة الجفاف والإجهاد.
ومع اتساع خريطة الوبائيات، وتفشي الكوليرا في البلاد، باتت قضية الرعاية الصحية الشاغل الأكبر للوافدين من مناطق الحرب، من المقيمين في دور الإيواء على وجه الخصوص، وذلك في ظل النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، وكثافة الدخول إلى المستشفيات.
وتسعى العديد من المنظمات الإنسانية الدولية، في ظل تحديات صعبة يعيشها النازحون في الولايات المختلفة، إلى تحسين الظروف البيئية وتعزيز الوعي المجتمعي بالوبائيات، وذلك بالتعاون مع وزارة الصحة السودانية.
استجابة إنسانية دولية
مع وصول الوضع الصحي في البلاد إلى حافة الانهيار في الأيام الماضية مثّلت الاستجابة الصحيّة من قبل منظمة (أطباء بلا حدود)، وقدرة فريقها على الوصول إلى المجتمعات النائية واحدة من العلامات الإنسانية الفارقة في سودان ما بعد الحرب.
تقول كيارا، منسقة الطوارئ ضمن فريق منظمة أطباء بلا حدود الإسبانية، التي التقتها “جسور بوست”، بمدينة عطبرة: "وصلنا في الرابع من سبتمبر الجاري، حيث ظلت عياداتنا في عطبرة تعمل بطاقتها الكاملة"، مشيرة إلى القيمة المضافة التي يحققها تعاونهم مع وزارة الصحة في الولاية وجهودهم المتضافرة للحد من تفشّي الكوليرا.
ولحسن حظ النازحة ضحى؛ فقد أُنقِذَت حياة طفلها المريض بعدما وصلت في الوقت المناسب إلى غرفة الرعاية الصحيّة التابعة للمنظمة الإسبانية.
وتدير منظمة أطباء بلا حدود مركزاً لعلاج الكوليرا يضم 100 سرير في مدينة عطبرة، التي سجلت أعلى عدد من حالات الكوليرا في ولاية نهر النيل.
وتؤكد كيارا ضمن إفاداتها التي خصّت بها “جسور بوست” أن الأعداد تتم مراقبتها يوماً بيوم، قائلة إنّ الدخول إلى الوحدة الصحيّة في بعض الأيام يكون 40 حالة، وفي أيام أخرى يصل إلى 90 حالة، مذكرة بالخدمات الصحية التي يقوم بها الفريق ودوره الحاسم في محاصرة المرض والحد من الوفيات.
بيئة مثالية وتحديات إضافيّة
وتعد الكوليرا من الأمراض المتعلقة بالفقر، والتي قد تودي بالحياة في غضون ساعات إذا لم تُعالج.
وأدى القتال المستمر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى خلق بيئة خصبة لانتشار الوبائيات، سيما في ظل انتشار الجثث المتحللة في العراء وتدمير البنى التحتية الخدمية والمرافق الصحية ومحطات الكهرباء وتنقية المياه.
وفاقمت السيول والفيضانات الأخيرة -بالإضافة إلى أزمات الجوع وسوء التغذية- من الوضع الصحي في البلاد.
وتفشى المرض، الذي ينتقل عن طريق المياه، في 46 محلية ضمن نطاق تسع ولايات من جملة 18 ولاية سودانية، ما يشكل تحدياً إضافياً للمواطنين المقيمين وكتلة النازحين الفارين من مناطق القتال.
وطبقاً لوزارة الصحة السودانية فقد ارتفعت الوفيات الناجمة عن الكوليرا إلى 252 وفاة في 8 ولايات سودانية، بينما أعلنت ولاية نهر النيل تسجيل 276 إصابة جديدة بالوباء، ليصل العدد التراكمي للمرضى في الولاية إلى 1887 حالة، بينها 54 حالة وفاة، مع تعافي 1547 شخصاً في الأسابيع الأخيرة.
الخريطة الوبائية والنزوح
تعزو مدير عام وزارة الصحة بولاية نهر النيل، الدكتورة ماجدة عبدالله علي، انتشار المرض إلى وجود الأوبئة في المناطق المتاخمة، وحركة الوافدين بين الولايات الآمنة نسبياً.
وأشارت في إفادات خاصة لـ"جسور بوست"، إلى أن أوّل حالات الكوليرا في نهر النيل ظهرت يوم 16 أغسطس الماضي، وهو التاريخ الذي دشّنت فيه الولاية منبرها الإعلامي لنشر الثقافة التوعويّة، حسب ما تقول، كبادرة استباقيّة من قبلهم لمكافحة الجائحة.
ووفقاً لتحليل جديد أجرته منظمة الصحة العالمية فقد أصبحت حالات تفشي وباء الكوليرا في مختلف أنحاء العالم أكثر فتكاً، فقد ارتفعت الوفيات الناجمة عن هذا المرض بشكل كبير خلال العام الماضي.
ويمكن للكوليرا أن تسبّب الموت بسبب الجفاف في يوم واحد فقط، بسبب القيء والإسهال المائي.
أكبر تجمع للنازحين
يقول عضو اللجنة الإدارية بالقرية 6 المواطن محمد سليمان، إنّ قريتهم بها نحو 1700 منزل، مع وفادة نحو 800 أسرة جديدة، ما يعني قرابة 2500 أسرة في حيز جغرافي ضيق، بينهم أسر مقيمة في المدارس المستخدمة كدور إيواء؛ وهي كلها مؤشرات لخطورة الوضع الصحي بالمنطقة، "نسبة لأن عدد السكان يفوق 15 ألف نسمة، في قرية مخصّصة خدماتها لمجموعة سكانية تقل كثيراً عن هذه الأعداد".
وطبقاً لسليمان فهناك مركز صحي بالفعل في القرية، لكنه لا يفي بالغرض المطلوب، لانعدام المحاليل الوريدية والأدوية فضلا عن عدم وجود أطباء، "وهي مشكلات إن لم يتم تداركها فستكون عواقبها كارثية على (القرية ستة)"، حسب ما يقول، بوصفها أكبر تجمع نازحين شمال السودان.
غياب حملات الرش
وتعضّد المواطنة أمامة محمّد من رؤية سليمان، عضو اللجنة الإدارية بالقرية، مشيرةً إلى غياب حملات الرش.
وبملامح تكسوها الأسى تضيف أمامة خلال حديثها إلى “جسور بوست”: "كل ما نحتاج إليه لا نجده، لا المبيدات ولا أملاح التروية، وحتى الحقن؛ لدرجة أن الأطباء وطواقم التمريض لا تجد أحياناً القفّازات الطبيّة الضروريّة لحمايتهم من العدوى".
وبحسب مدير عام وزارة الصحة فإنّ هناك مشكلة إصحاح بيئي لا يمكن إنكارها، وكذا أزمة تكدّس النفايات في كل محليات الولاية، ما يمثل بيئة مثالية لتناقل الأمراض.
من جهته، يشخّص المواطن رامي بشير الأزمة من منظوره قائلاً إنّ الكثافة السكانيّة بقريتهم انعكست سلباً على أوضاعهم الصحيّة، مشيراً إلى أنّ هناك 4 أسر أحيانا تضمها جدران منزل واحد، يعاني أصلا من سوء الصرف الصحي والحمامات داخله مع غياب نظم الرعاية الصحية خارجه، فضلاً عن تكدّس النازحين بالمرافق الخدميّة وفي المدارس التي اتخذوها مساكن.
ومن وجهة نظر رامي فإن الوضع كارثي وبحاجة إلى تدخلات بإمكانيات أكبر من طاقة الولاية، ما يجعلهم يطلقون المناشدات للأمم المتحدة والمنظمات الدولية بتمويل وتوسيع نطاق الأنشطة، وخاصة خدمات المياه والصرف الصحي، التي تعتبر حاسمة لوقف انتشار هذا الوباء القاتل.
نقص المحاليل
تقول الطبيبة هالة إبراهيم أحمد، من مستشفى القرية 6، في حديثها إلى "جسور بوست"، إن المستشفى أغلق أبوابه منذ الأسبوع الماضي لغياب الإمكانيات ونقص المحاليل، مشيرة إلى أنهم يداوون مرضاهم في منازلهم.
وقال مجاهد عمر المسؤول بالهلال الأحمر السوداني، وعضو مكتب الطوارئ بالقرية 6، إنه يدعو فقط جميع الجهات المسؤولة لتوفير المعينات لفتح عنبر العزل بالقرية، وهي ذات الاستغاثة التي أرسلتها الطبيبة هالة مناشدة الجهات المسؤولة ووزارة الصحة الولائية والفيدرالية وإدارة الوبائيات للوقوف إلى جانبهم، مذكرةً بأن النازحين الذين وفدوا إليهم لاذوا بهم هرباً من طامة كبرى، "لكنهم الآن أمام طامة أكبر".